روائع مختارة | قطوف إيمانية | أخلاق وآداب | المزاح بين المشروع والممنوع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > أخلاق وآداب > المزاح بين المشروع والممنوع


  المزاح بين المشروع والممنوع
     عدد مرات المشاهدة: 2641        عدد مرات الإرسال: 0

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد/ فإن للأعمال ضوابط تُضبَط بها حتى تكون موافقة للمشروع، ومتى فُقِدَت هذه الضوابط كان ذلك العمل ممنوعاً، وكم من إنسان غفل عن تلك الضوابط فوقع في الممنوع من حيث يشعر أو لا يشعر! وقد قال عليه السلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».

ومن تلك الأعمال التي لابد أن تضبط بضوابط الشرع المزاح الذي يكثر في هذه الأزمنة المتأخرة، ويقل من يضبطه بضوابط الشرع.

معنى المزاح بضم الميم: وسيلة يراد بها المباسطة، بحيث لا يفضي إلى أذى، فإذا بلغ الإيذاء فإنه يفضي إلى السخرية، والمزاح بكسر الميم: مصدر.

[] من فوائد المزاح:

=أولاً: أن يكون على سبيل الملاينة والمباسطة وتتطييب خاطر صاحبك وإدخال السرور على قلبه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة»، وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

=ثانياً: أنه أنس للمصاحبين وطرد للوحشة وتأليف للقلوب ومظهر من مظاهر الأخوة والوفاء.

=ثالثاً: التخلص من الخوف والغضب والقلق وغيره، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على نفسه شيئاً من السرور والتسلية، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك.

=رابعاً: التخلص من السأم والملل، كأن يعطي الشيخ طلابه سؤالاً أو لغزاً كي يُذهِب الملل عنهم.

[] مشكاة النبوة: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الرفق في كل أمر من أمور الحياة، وما الإستجمام للنفس إلا من الرفق بها ليكون الرفق من مظاهر كل أعمال الإنسان في الحياة، حتى ليُربَط الرفق بصفات الخالق الرحيم الرفيق بخلقه، روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه»، والرفق: هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف.

وما الإنبساط والمزاح وما يتبع ذلك من لين القول والتبسم وإنشراح الصدر إلا مظهر من مظاهر الرفق، ولعل أشهر ما ورد في المزاح ما أورده البخاري في باب -الانبساط إلى الناس- حديث: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟».

وكذلك أبو داود في سننه من حديث أنس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إحملني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا حاملوك على ولد ناقة» قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل تلد الإبل إلا النوق».

وربما مازح صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد طلوع الشمس، ودليله ما رواه سِمَاك بن حرب قال: قلت لجابر بن سَمُرَة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم، وفي رواية النسائي وأحمد زيادة: وينشدون الشعر.

ومن الأوقات بعد صلاة العشاء، أي: السمر فيه، والسمر: الحديث قبل النوم، وأورد البخاري حديثين ذكرهما في باب -السمر في العلم- وإستنبط منهما جواز السمر في العلم والقياس على ذلك في المؤانسة مع الأهل، وكذلك لتحصيل فائدة مع الإخوان والخلاَّن، ويزداد إستحبابها إذا كانت لمصلحة دعوية في بذل نصح وتقريب قلوب وزيادة محبة ومودة وإزالة الكدر وإيجاد أجواء الحب والتعارف.

دروس من أبي الدرداء: ولا بأس أن يأخذ الداعية من الراحة فيما لا يكون حراماً ليستعين به على العمل والأداء حسب ما تقتضيه الفطرة البشرية، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني أستجم ببعض الباطل، ليكون أنشط لي في الحق.

ويقول ابن تيمية معلقاً على هذا القول: فأما من إستعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة.

[] الصحابة والمزاح:

أورد أبو داود في سننه: عن أسيد بن حضير قال: بينما رجل من الأنصار يحدِّث القوم وكان فيه مزاح بَيْنَا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني! فقال: «إصطبر» قال: إن عليك قميصاً وليس عليَّ قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كَشْحَه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله.

وكان من أشهر الصحابة نُعيمان بن عمرو بن رفاعة المشهور بقصصه ودعاباته، وهو صحابي جليل: شهد بدراً، وكان من قدماء الصحابة وكبرائهم، وكانت فيه دعابة زائدة، وله أخبار طريفة في دعاباته.. وكان نعيمان مضحكاً مزاحاً.

ولقد كان المزاح نوعاً من طرد السَّأَم والهم والإبتعاد عن مشاغل الدنيا وترويح للنفس، إذ لابد للدنيا من مواقف تتجدد فيها الطاقة وتبعث فيها الهمة، لأن القلوب إذا كلَّت عميت، بل إن ذلك قد يكون مظهراً من مظاهر الرجولة في البيت ومع الزوجة والأولاد، إذا كان دون إسراف أو جنوح، لا كما يظن بعضٌ أن الرجولة بالتكلف والتصنع، واسمع قول بعض الصحابة: قال ابن عمر: إنه ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، ثم إذا بُغي منه وُجِدَ رجلاً، وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، فإذا خرج كان رجلاً من الرجال.

لذلك ينبغي ألاَّ يكون من خُلُق الشاب الملتزم أو الداعية التبسم خارج البيت وتصنُّع الغلظة والجفوة في بيته، ولا يخفى أن عكس الأمر من التكلف المذموم أيضاً، فالتوازن مطلب أساس: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بين الصحابة وفيهم الحازم من أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان رجلاً مهيباً، وفيهم صاحب الدعابة الذي يستلقي على قفاه، ولم ينكر على أحد منهم، والأصل هو في إنكار الضحك المتكلَّف في القهقهة، أو الضحك في مواطن الجد، أو الإفراط فيه، ولقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبل، وقال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأعراض ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهباناً.

وهكذا ظل الصحابة أوفياء للمنهج النبوي دون أن يؤثر المزاح على جدية العمل، أو على تطبيق السنن، أو على تفويت المصالح، ولا شك أن الإفراط يقود إلى أمور تنافي مقاصد الشريعة ومراتب المروءة، وتتعارض مع المقامات السامية، كما أنها قد تكون حسنة بذاتها ولكنها تقود إلى مفسدة، ولقد قال علي رضي الله عنه في توضيح هذا الميزان وتثبيته: خير هذه الأمة النمط الأوسط: يرجع إليهم الفاني، ويلحق بهم التالي.

[] سلف الأمة: وعلى منهج الصحابة سار السلف في جعل المزاح إستراحة، فتكاد ألاَّ تجد كتاباً يخلو من مُلَح وطرائف لشيخ التابعين الإمام الشعبي رحمه الله، قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟ قال: بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه، وقد إعتبر بعض الفقهاء المزاح وفق ضوابطه وفي أوقاته من المروءة، والتقصير فيه من خوارم المروءة، وشددوا على ذلك في السفر، وفي هذا يقول ربيعة الرأي: إن المروءة من خصال: ثلاثة في الحضر، وثلاثة في السفر، والتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، وكثرة المزاح من غير معصية.

وإيراد ما ورد عن التابعين وسلف الأمة يطول، وجميعهم على هذا المذهب في جواز المزاح وفق الضوابط الشرعية، يقول النووي رحمه الله: المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

[] الضوابط الشرعية في المزاح:

1= ألا يكون فيه شيء من الإستهزاء بالدين: فيعد هذا من نواقض الإسلام، لقوله تعالى: {ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ*لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام، وهذه كالإستهزاء ببعض السنن على سبيل المزح، وببعض الأحكام الشرعية كتقصير الثوب وإعفاء اللحية أو الصلاة والصوم وغيرها، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي.

2= ألا يكون إلا صدقاً ولا يكذب: ولا سيما أولئك المعتادين لذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس، روى الإمام أحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا»، ولا شك أنهم وقعوا في ذلك بسبب الفراغ وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله تعالى، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.

3= السخرية وال[ستهزاء بالآخرين: فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، يقول ابن كثير: المراد من ذلك إحتقارهم وإستصغارهم والإستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين، ويقول الطبري: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان.

وقد روى البيهقي في -شعب الإيمان- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن المستهزئين بالناس لَيُفْتَحُ لأحدهم باب الجنة فيقال: هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه». ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها فيتصف بها ويبتلى بفعلها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك».

ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالمسلمين فقال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات، «بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»، «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه».

4= ألا يروِّع أخاه: فقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فإنطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً».

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً».

5= عدم الإنهماك والإسترسال والمبالغة والإطالة: ينبغي ألاَّ يداوَم على المزاح، لأن الجد سمات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لإستمرار النفس في أداء واجبها، فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب، وبذلك نبه الغزالي رحمه الله بقوله: من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة.

6= أن يُنْزِل الناس منازلهم: إن العالم والكبير لهم من المهابة والوقار منزلة خاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الإبتعاد عن المزاح معهما خشية الإخلال بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم».

ونقل طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (من السنة أن يوقَّر العالِم). وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح، فهذا يؤدي إلى إستحقار المازح والإستخفاف به، فهذا عمر بن عبد العزيز يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: اتقوا المزاح، فإنه يُذْهِبُ المروءة.

7= ألا يكون مع السفهاء: قال سعد بن أبي وقاص لابنه: اقتصد في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء.

8= ألا يكون فيه غيبة: الغيبة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفة العظيمة، لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً، لأنه في زعمه إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك، ولم يعِ تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة بقوله: «ذكرك أخاك بما يكره».

وقد أورد الترمذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: إتق الله فينا، فإنما نحن بك: فإن إستقمتَ إستقمنا، وإن إعوججتَ إعوججنا».

والغيبة أنواع، سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها، هذا ونسأل الله أن يؤدبنا بآداب الإسلام، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكاتب: حامد بن مشاري الحامد.

المصدر: موقع ياله من دين.